العصر العباسي: تعريفه، نشأته، وملامحه الحضارية والسياسية

يُعد العصر العباسي من أعظم العصور التي مرّت بها الحضارة الإسلامية، وقد امتد هذا العصر لقرون عدة كانت حافلة بالتحولات السياسية والاجتماعية والعلمية والفكرية. شكلت الدولة العباسية مرحلة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، انتقلت فيها من الطابع الأموي الذي ساد الطابع العربي والقبلي، إلى طابع أكثر شمولًا واتساعًا يضم عناصر فارسية وتركية وغيرها، ويتميز بانفتاح علمي وثقافي لم يسبق له مثيل في العالم الإسلامي آنذاك.

تعريف العصر العباسي

العصر العباسي هو المرحلة التاريخية التي بدأت مع قيام الدولة العباسية سنة 132هـ (750م) وانتهت بسقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ (1258م). وقد تأسست هذه الدولة على أنقاض الدولة الأموية بعد ثورة دامية قادها العباسيون من آل بيت النبي محمد ﷺ، مدّعين أنهم الأحق بالخلافة لقرابتهم من العباس بن عبد المطلب، عمّ النبي.

وقد تميز العصر العباسي بطول مدته، وتعاقب خلفائه، وتنوع مراحله، إذ مرّ بأربعة أطوار رئيسية: الطور الأول (العصر الذهبي)، الطور الثاني (بداية الضعف السياسي)، الطور الثالث (سيطرة البويهيين)، والطور الرابع (سيطرة السلاجقة)، حتى انتهى أخيرًا بسقوط بغداد.

خلفية تاريخية ونشأة الدولة العباسية

بدأت الدعوة العباسية سرًّا في أواخر العهد الأموي، تحديدًا في خراسان، حيث وجد العباسيون دعمًا واسعًا من الفرس والموالي والشيعة، الذين استاؤوا من تفضيل الأمويين للعرب دون غيرهم. كان للداعية العباسي أبو مسلم الخراساني دور كبير في تجنيد الأنصار وتجهيز الثورة، التي توجت بانتصار العباسيين ومقتل آخر خلفاء بني أمية، مروان بن محمد، في معركة الزاب الكبير سنة 132هـ.

أسس أبو العباس السفاح الدولة العباسية بعد هذا الانتصار، واتخذ من الكوفة عاصمة له، ثم نقلها أخوه أبو جعفر المنصور إلى مدينة جديدة أنشأها وسماها بغداد، والتي ستصبح لاحقًا مركز الحضارة الإسلامية.

ملامح الحكم العباسي في مرحلته الأولى (العصر الذهبي)

مركزية السلطة

اعتمد الخلفاء العباسيون الأوائل نظامًا مركزيًا قويًا في الحكم، حيث ركز الخليفة في يده السلطة السياسية والدينية والعسكرية. وكان أبو جعفر المنصور من أبرز المنظرين لهذا النموذج، إذ عمل على ترسيخ سلطته وتقوية الإدارة المالية والعسكرية.

تطور الإدارة والدواوين

أنشأ العباسيون مؤسسات بيروقراطية متطورة، اعتمدوا فيها على خبرات الفرس في الإدارة. ومن أبرز الدواوين: ديوان الخراج، ديوان الجند، ديوان الرسائل، وديوان البريد، وقد أدت هذه الأجهزة إلى تنظيم موارد الدولة ومراقبة العمال والولاة في الأقاليم.

النهضة العلمية والفكرية

بلغت الدولة العباسية ذروة ازدهارها العلمي والثقافي في عهد الخليفة هارون الرشيد وابنه المأمون. فتم تأسيس بيت الحكمة، الذي كان مركزًا للترجمة والبحث العلمي وجمع المخطوطات من شتى بقاع الأرض. وبرز في هذا العصر علماء كبار مثل الخوارزمي، الرازي، الفارابي، الكندي، ابن سينا، والبيروني، الذين أسهموا في تقدم الطب، والفلك، والرياضيات، والكيمياء، والفلسفة.

الانفتاح الحضاري

تميز العصر العباسي بانفتاح ثقافي كبير على الحضارات الأخرى، لا سيما الفارسية واليونانية والهندية. وظهرت في هذه الفترة ظاهرة الترجمة الواسعة للنصوص الفلسفية والعلمية من اليونانية والسريانية إلى العربية، مما ساعد على إثراء العقل الإسلامي بمضامين معرفية متنوعة.

الحياة الاجتماعية في العصر العباسي

اتسمت الحياة الاجتماعية في العصر العباسي بتنوع كبير، نتيجة لتعدد الأعراق والمذاهب والثقافات داخل الدولة. وقد أدى هذا التنوع إلى:

• انتشار الترف والرفاهية في الحواضر الكبرى كـبغداد وسامراء.

• بروز طبقة من المثقفين والكتاب والشعراء، مثل الجاحظ وأبو تمام والمتنبي.

• ظهور الحركات الاجتماعية والفكرية مثل الاعتزال والصوفية، وتأثيرهما في الحياة العامة.

• ظهور الطوائف المختلفة مثل الشيعة والخوارج، وأثرهم على الاستقرار السياسي.

الحياة الاقتصادية

اعتمدت الدولة العباسية على اقتصاد زراعي وتجاري قوي. ومن العوامل التي أسهمت في ذلك:

• اتساع الرقعة الجغرافية للدولة، مما وفّر تنوعًا في الموارد.

• تطوير وسائل الري والزراعة، خاصة في مناطق مثل العراق وخراسان.

• تطور النشاط التجاري، إذ أصبحت بغداد مركزًا تجاريًا عالميًا، تربط بين الشرق والغرب.

• سك العملة وتطوير النظام المالي، حيث تم تنظيم حركة النقود وفرض الضرائب والجزية بطريقة أكثر دقة من العصور السابقة.

الانقسامات السياسية وبداية ضعف الدولة

رغم قوة الدولة العباسية في بدايتها، إلا أنها تعرضت لاحقًا لعدة أزمات داخلية وخارجية ساهمت في إضعافها. ومن أبرز هذه الأزمات:

• الثورات الداخلية: مثل ثورة الزنج (255هـ)، وثورة القرامطة، وثورات الطوائف الشيعية.

• استقلال بعض الولايات: بدأت بعض الأقاليم بالتمرد على الحكم المركزي، مثل المغرب والأندلس، حيث ظهرت الدولة الإدريسية والدولة الأموية في الأندلس.

• سيطرة القادة العسكريين: كالبويهيين ثم السلاجقة الذين حكموا باسم الخلفاء العباسيين، لكن السلطة الفعلية كانت بأيديهم.

• الاختلال المالي: بسبب كثرة الإنفاق على الحروب والترف والمرتزقة، مما أدى إلى استنزاف خزينة الدولة.

الفنون والعمارة في العصر العباسي

بلغت الفنون والعمارة العباسية قمة نضجها، إذ ازدهرت العمارة الدينية والمدنية، وتميزت بالزخرفة الإسلامية والمآذن العالية والقباب المزخرفة. ومن أبرز المعالم:

• مدينة بغداد: التي بُنيت بشكل دائري هندسي متقن، وضمّت قصورًا ضخمة ومساجد وجسورًا.

• مدينة سامراء: التي أسسها الخليفة المعتصم، واحتوت على معالم فريدة كـجامع الملوية بمنارته الحلزونية.

• فن الخط العربي: تطور بشكل كبير، وظهر خط الكوفي المزخرف الذي استُخدم في نسخ المصاحف.

• الموسيقى والمجالس الأدبية: حيث كان خلفاء العباسيين مثل هارون الرشيد والمأمون يعقدون مجالس الشعراء والموسيقيين، ما ساعد في نمو الذوق الأدبي.

الجدول الزمني لأهم مراحل العصر العباسي

نهاية العصر العباسي وسقوط بغداد

بلغ الضعف مداه في القرن السابع الهجري، حتى جاءت الطامة الكبرى على يد المغول بقيادة هولاكو، الذين دخلوا بغداد سنة 656هـ، وارتكبوا مجزرة كبرى أودت بحياة الآلاف من العلماء والعامة، وأحرقوا المكتبات، وفي مقدمتها بيت الحكمة.

وبهذا السقوط انتهى رسميًا العصر العباسي الكلاسيكي، على الرغم من استمرار الخلافة العباسية رمزيًا في القاهرة لاحقًا في عهد المماليك.

الخاتمة

العصر العباسي يشكل مرحلة محورية في تاريخ الحضارة الإسلامية، تميزت بالغنى العلمي والثقافي والامتداد الجغرافي الهائل، وبنظام إداري قوي، وإن كان قد شابته صراعات سياسية وثورات أدت لاحقًا إلى تقويضه. وقد أسهم العباسيون في ترسيخ اللغة العربية كلغة علم وأدب وفكر، ووضعوا الأسس التي بُنيت عليها النهضة الإسلامية في العصور اللاحقة.

المراجع:

1. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، الجزء الثاني، دار الجيل.

2. أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، الجزء الثالث، مكتبة النهضة المصرية.